العودة للاصوليات القبلية

م  يعد السكوت عن التشنج القبلي مجدي ، تشنج يوجب مواجهة وتقييم ووضع معالجات إن أمكن ، إذ لم تعد شأن العوام أو ذوي الثقافة المحدودة بل اصبحت ظاهرة تناقشها وتنتصر لها النخب .

 ليست العودة للاصوليات في عالمنا العربي حكرا على الجماعات الأصولية الإسلامية بتنوعاتها الحركية والطائفية  . بل هي عودة للماضي للبحث عن الامان فيه..فالاصوليات الدينية  الشكل الابرز والاكثر فعالية واتساعا واقناعا ، لكن  إلى جانبها  فسيفسائية اصولية محلية ،  القبيلة أبرزها ، فما نقراه على صفحاتنا من مشاجرات ومشجرات انساب قبلية ودعاوى مظلوميات هي مظاهر تلك الاصوليات   ، وكذا الاحلاف والمنديات القبلية ليست نشاط عمل مدني بل تحمل في ثناياها نشدان الامان عبر اللجوء لاصوليات ماضوية مادون الوطنية ، والاشد مرارة انه يتم تبريرها من البعض تحت اللافتة الوطنية .

 القبيلة اول تنظيم عرفته الامم ، فرض ضرورته الخوف من المجهول ، فوفقا لعلماء الاجتماع انها الاصوليات  المرجعية   وهي " الذاكرة التاريخية " حسب  مدارس علم النفس.
والقبيلة عند العرب احساس بالانتماء تتطابق ومعنى  الهوية في مواجهة تحديات زمنها ..القبيلة اول تجمع اعطى لافراده الامان من المجهول ووفر الامن وتأمين المعاش وهذان العنصران انتفت حاجتهما الآن  ولم تعد القبيلة ضامنة لهما ورغم ذلك يتم الرجوع لها.
 
  الوعي بالقبيلة وعي ثقافي باعتبارها منتج تنظيمي مثل النقابات أو الجمعيات ...الخ الفارق أنها  أسست لوعينا ، لكن كلما طغى الوعي بالقبيلة وتجاوز حدود الواقعية وأصبحت حاملة لاستحقاقات تفوق الوعي بها فإنه يخلق وعيا مضادا  ويحفز ردة فعل على درجة مماثلة من الحدة .

 ليست العلة في القبيلة كاعتقاد البعض ؛ فالقضاء عليها لن يخلصنا من مشاكلها ، المشكل في البنية الثقافية التي نملكها..بنية  فكرية / عاطفية مغلقة يرتفع فيها النسق .... ويجد له منافذ كثيرة كالمناطقية والفئوية والطائفية ..منافذ نجدها في السلوك الوظيفي والواسطة والمحاباة  وفي جدليات التواصل الاجتماعي المتعددة .

 ماهو النسق؟
هو الفارق بين الطائفة والطائفية ،  فالاولى جماعة عبادة ، والثانية أخذ الامتيازات لها من الآخرين بالقوة .. بالعنصرية  . الطائفة وعي ثقافي مهما اختلفنا معه أما الطائفية فنسق عاطفي ثقافي يعطي إحساس بالتميز والتفوق العنصري على الآخر

 
 النسق ما نسميه بالقبلية أو القبايلية تكوين ثقافي ووجداني ليس عقلاني ولا يمكن حله بالطرق العقلية ،  القبيلة تنظيم أما النسق تطرف تعصب واعتقاد بالتمييز على الآخر  وأخذ حقوق الغير أما بالقوة أو بالتحايل  .

هل نعاني من القبيلة أم من القبايلية ؟
معاناتنا ليست من القبيلة كوعي ثقافي بل من القبايلية كنسق وتكوين ثقافي ووجداني غير عقلاني ويخلط الكثير منا بين المفهومين

لكن لماذا الرجوع إلى القبيلة بصيغتها القبائلية؟
كنت اتابع سقوط بغداد كغيري  من ملايين المتابعين وما شدني أن العراقيين بعد أن يأسوا من حماية الدولة وانهيار مؤسساتها لجأوا للمسجد وللقبيلة طلبا للامان ..اي العودة للاصوليات المرجعية

 السبب فشل الدولة الوطنية في مرحلتيها الوطنية والوحدوية ..وشيوع الاعلام الذي كشف الفساد في الوظيفة العامة المدنية والعسكرية  فيها حيث طغت  العائلية والقبلية والمناطقية والمحسوبية، وأصبحت مميزات. للتوظيف والترقية الى أعلى المناصب  وللاثراء اللامشروع من خلال السيطرة العائلية والقبلية على إمتيازات وتجارة السلطة والنفوذ  وشعور الفرد  بغلبتها على كفاءته وقدرته وحتى ماله.. والأدهى انها سيطرت على وسائل الاعلام لتمجيدها وتبييضها

 تأسست القبيلة لتوفر لمواطنيها الأمن من المجهول  أما العودة إليها فلتوفير الأمن من المعلوم ، حيث شكلت أذهان الناس الصورة التلفزيونية الجبارة بمذابحها وخراب مدنها ومشاهد الموت بالنقل المباشر والنزوح والتهجير وانتهاكات الطفولة والنساء وانتهاكات كثيرة تهم الفرد وتزعزع امانه  ولاحلول محلية ولا عالمية لها .صورة ادخلت الخوف فينا افراد ودول ..الكل يبحث عن ملجا أمان ولو كان ملجأ واهم لايوفر الامان كوهمنا بأن القبيلة  ستضمن لنا الامان في هذا الجيل الإليكتروني من الحروب .وكذا اضطراب وفوضى شكلتها وزادت من وطأتها ايضا منصات التواصل الاليكتروني الغير خاضعة للضوابط والتي غزتنا في كل مكان حتى غرف نومنا ، وبالاسماء المستعارة اصبح مباح تناول كل محظور ومسكوت عنه  .

ومن الأسباب أن قياداتنا ونخبنا السياسية والثقافية والدينية بسبب ثورة الصورة   ومنصات التواصل  فشلت في منحنا الأمان لضيق افقها وانكشاف انانيتها وقلة كفاءتها ، فشيوع الإعلام بأشكاله المتعددة كشف هزالتهم وأن بعضهم هم من مصادر خوفنا ،  فنخبنا تتصارع على جثتنا لتحقيق مكاسبها الشخصية أو الحزبية/القبلية ونخبنا الدينية لم تسلم من التوريث وإعداد الأبناء خلفا للآباء وفي احسن حالها أصبح ولاؤها التنظيمي الحركي أكثر من ولائها المجتمعي .

من المستفيد من شيوع ذلك؟
 بالتاكيد ليس القبيلة فالقبيلة هي الخاسر ،  وهي مجرد وقود مرحلة وأدوات لها فالمستفيد :
 الاجهزة الاستخباراتية وفقا لقوة كل جهاز ففي حالتنا في الجنوب في المرحلة الراهنة نجد أن الاجهزة الاستخباراتية اليمنية وقواها السياسية والحزبية في الجنوب هي المستفيد الابرز من بعث القبائلية فينا لأن القبايلية تعصب وتمييز وتآكل تمنع القوى الحية من الاضطلاع بدورها في الجنوب..فهي نقيض القبيلة التي مهما كانت الاحوال والمغريات وادعاء المظلوميات  لن تعود ، ونقيض الدولة التي هي مؤسسات وقوانين ومحاكم ..ففشل الدولة وفشل تأسيس بنيتها في الجنوب يجعل الشمال  البديل باجهزته وأحزابه ودولته !!   .
  والمستفيد القوى الأصولية الدينية فهي الاكبر والاوسع ، تحمل نسق أكثر استيعابا من نسق القبائلية بل إن تلك القوى الأصولية  ستستخدم القبايلية وتؤطرها لصالحها بما تملكه من خطاب  ووسائل وأجهزة متعددة للسيطرة  
كلها ستستخدم كل الوسائل المتاحة وأبرزها الصورة والتواصل الاجتماعي بتعدد منصاته

ما هو دورنا؟
 علينا أن نعي المعادلة ونعي الاطراف المستفيدة وان لايتم الاستقواء بالقبيلة - كاطار منفرد غير مختلط   - في نشاطنا السياسي والعسكري والأمني  فهي سلاح حاد لن يوسس إلا لردة فعل مماثلة وخراب أكثر مما نتصور  ولن تفيد في بناء مؤسسي للوطن مهما توهمنا لانها ستحلق ردة قبائلية معاكسة لن تهتم بمن يساعدها ونواياه.   

 على النخب الجنوبية ان تسعى لخلق نموذج وطني جاذب ، فخلال النصف قرن الماضي كانت ممارساتها التي تقود العمل الوطني تسعى للتمكين العائلي أو القبلي أو كليهما أما بشكل تحايل وتمويه أو بشكل صريح سافر  .

  على أصحاب منصات التواصل الاجتماعي بكافة انواعها أن يعوا أن نشر الدعاية القبائلية لن يعود إلا بآثار سلبية على الجميع فلا يعتقد أحد أنه في مأمن .

فالوعي الثقافي بالقبيلة يقول إن هذه التجمعات القبلية ظلت متجاورة مع بعضها مئات بل آلاف السنين ولم تطغ قبيلة على حقوق اخرى او تسلبها وجودها وحقوقها.
اذن أين المظلومية؟

 أن معالجة المظلوميات القبلية التي تتبادلها منصات التواصل   ، هي مظلوميات لم تتسبب فيها وتصنعها القبائل ككيانات مستقلة ، وليست مسؤولة عنها بل مسؤول عنها الانظمة التي  افرزت تلك المظلوميات
وأي تصديق او ترويج لأي منشورات تتجه بالنتائج للقبيلة ونشرها وترويجها على منصاتنا يؤكد سيرنا كما تريد لنا تلك الأجهزة المخابراتية سواء بعلمنا أو بدونه وان مانروجه يخدم تلك المؤسسات المخابراتية    أو يخدم تلك القوى الأصولية .

مقالات الكاتب