هذه صورتك معي دائما

ظلت عينا والدي مركزتين على السيارات التي تسبقنا وقال دون أن يلتفت إلى:"يا مريم، إن هؤلاء لا يعنون لي شيئا. فما يهمني هو تاريخ أبي وأمي." ثم مضى في قيادة سيارته.

 

كنت أحدثه حينها عن أحد الشخصيات العامة وما ألمَّ بها من أحداث في سرد مطول.

 

كنت مصرة على مواصلة الدفاع عن موقفي فقلت له: "لكن البحث في تجارب مثل هذا الرجل أمر مهم حتى وإن اختلفنا معه في الرؤية، أو كان لا يعنينا أمره."

 

صمت الوالد قليلا، ثم كرر قوله : "أنا ما يهمني هو تاريخ أمي الضعيفة المسكينة التي لم تثنها ذراعها المشلولة عن تربية خمسة أطفال، وأن تظل تسعى جاهدة لكي تقدم لنا الأفضل.".

 

استرعت اهتمامي كلمات الوالد الذي لم تفارق عيناه مقود السيارة وهي تشق طريقها. ألقى نظرة خاطفة على المرآة لمعرفة ما خلفنا من سيارات ثم مضى يقول:"ما يهمني يا بنيتي ايضا هو تاريخ ابي، ذلك الجندي الذي فر من صفوف جيش القائد الاسباني فرانكو، لكي لا تتلطخ يداه بدماء الاسبان في الحرب الاهلية. لَكَم كان رائعا ذلك الأب الذي غادر مسقط رأسه في سن مبكرة لكي يستقر في قرية بعيدة لا يعرف فيها أحدا. إنه رغم ذلك كان شخصية مؤثرة وترك سمعة طيبة ومازال الجميع يذكرونه بخير. هذا هو التاريخ عندي".

 

عادت بي كلمات والدي إلى تلك الوصية التي وجهها لي بينما كنت ممسكة بذراعيه في إحدى ليالي رمضان منذ سنوات. كنا للتو خرجنا من المسجد المطل على حافة البحر في سبتة المحتلة بعد صلاة التراويح. قال لي بصوت فيه نبرة هدوء وحزن: "أنا كل يوم و في كل سجود أدعو لوالدي وأقول "رب اغفر لي و لوالدَي و للمؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب".

 

شعرت بعينيه تبحثان عن ملامح وجهي وسط الظلام، وأضاف:"وأنت كذلك إن مت لا تنسيني من هذا الدعاء. إن الله سييسر لكم أمور دنياكم". أدمعت عيناي فجأة وقلت له بصوت فيه حشرجة: "إن شاء الله يا أبتِ، انت كذلك أدع لي بالرحمة إن متُّ".

 

والدتي لا تقل عن أبي حبا لوالديها الراحلين. فهي تردد تفاصيل حياتها معهما في قريتها ذات الطبيعة الربانية، بالرغم من مفارقتها لهما في سن صغيرة حين تزوجت بأبي وهاجرت معه إلى ألمانيا.

 

عندما كنت في البيت الحرام أول مرة سنة 2013، وبينما أنا أنتظر إقامة صلاة العصر في أحد زوايا المسجد، حدث لي ما نقول عنه بالعامية المغربية "تسيبت علي نفسي"، أي حينما تشعر بذل و هوان مفاجئ. أحسست بتقصير رهيب تجاه أمي و لا أعلم لماذا.

 

فدعوت لها كثيرا وأنا أطلب لها أعلى المنازل وأن يرحمها الله حية وميتة. ثم اتصلت بها فورا و أنا أقول لها بصوت مبحوح: أمي.. فترد: العزيزة اديالي... لينحبس صوتي بالدموع و أنا أقول لها: سامحيني.. فردت بصوت دافئ و حنون: مالك أ بنتي؟ أش عندك؟. فأجيبها بلا جواب : والوا... اسمحلي و صافي.. و كنبغيك بزاف.

 

فقالت كما تفعل الأمهات دائما عندما يستشعرن انكسار أو حزن أحد أبنائهن أيا كان السبب: حتى أنا كنبغيك بزاف..و ما تبكيشي.. إنتي مع سيدي ربي والملائكة.. إفرحي وتسلَّيْ واضحكي ليضحك الناس معك.

 

كان ردي عليها هو: واخا آمَّا.

 

حينها ارتفع صوت المؤذن: الله أكبر الله أكبر.

 

حمدت الله على أنه لا تزال عندي أم أتصل بها، و أعتذر منها، وتمنحني الحب بدون مقابل.

 

أستحضر هنا صديقة مغربية تعيش هنا في ألمانيا، من بنات المغرب الكريمات التي مهما قلت عنها فلن أوفيها قدرها لدي، إلا بأن أطلب لها من الله تعالى بأن يعزها ويكرمها في الدنيا والآخرة وأن يرحم والدتها "خالتي الضاوية" رحمة و اسعة ملء السموات و الأرض و قدر جمال وجه ربي، فليس بعده من قدر. هذه الصديقة الغالية تعرفت عليها في الديار المقدسة. لقد كانت رفيقتي في الغرفة، وأول وجه انطبع في ذاكرتي عند الوصول إلى المدينة المنورة. كانت لا تزال تحت صدمة فقدان والدتها، وقد منحها الله القوة على أداء العمرة نيابة عنها في خلال أربعة أيام، أربع أو خمسة عمرات متواصلة، بالإحرام من ميقات عائشة، مصحوبة بشعورها الأبدي بالتقصير.

 

لكنها أبية و مباركة. وقد جعلت هذا الحب وهذا الشعور شعلة من العطاء. فهي تبر بأبيها وتحنو على إخوتها، وتعطف على المحتاجين، وتعظم قدر والدي أصدقائها... بنت كالذهب. يتجلى فيها قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو ولد صالح يدعو له.

في آخر عطلة لي في المغرب قالت لنا أمي فجأة (أنا ومن كان من إخوتي) : يا أولاد..إذا متُّ، من منكم سوف يبكي علي!؟. صاحت أختي وهي تبتسم: ها قد دخلت الحاجَّة في نوبات الفلسفة. و قال أخي الأكبر: أنت لن تموتي أبدا يا ماما. و قلت لها أنا : نعم أنت لن تموتي أبدا.

 

 و ثم أحضرت لها محفظتي وقلت لها أنظري، هذه صورتك معي دائما، أقول لك صباح الخير حيث ما كنت، وأقبلك كلما أشتقت إليك. وأصطحبك معي في كل مكان لكي أشعر بأنك تعيشين معي اللحظة، حتى أني أخذتم معي إلى الروضة وإلى حجر إسماعيل.

ثم ذكرتها بالماضي البعيد القريب و أنا أقول لها: نحن وبسبب ظروفنا الغريبة لم نعش أبدا حياة سوية يا أمي. مرت علي أشياء كثيرة، وانتم كذلك. وكنا بعيدين عن بعضنا. لذلك كنت أحيانا أعود للبيت حيث لا أحد فأنادي أمي.. أبي وأحدثكما بصوت مرتفع عن ما حدث أو ما أنوي فعله. و بالتالي لقد كنتما معي بالرغم من بعد المسافة. لذلك أنتما لن تموتا أبدا.

 

فرأيت أمي تصمت وقد ظهر على وجهها شي من الحزن. قطعت عليها حبل الصمت بقولي: أنت حية في كل وقت، فأنت خارج الزمن. ثم سألتها : أمي بماذا توصينني؟. قالت بعدما صمتت قليلا و هي تفكر: أوصيكم بالصبر ثم الصبر ثم الصبر. و أن لا يخدعم الكلام المنمق و أن لا يقهر أحدكم الأخر، و أن لا تفكري أبدا أبدا في شيء هو ملك غيرك، بل إصنعي ما سوف يكون لك مهما كان بسيطا، لكي تكوني سيدة نفسك و لا يأتيك أبدا أحد يطالبك بأي شيء. فقلت لها بصوت تأملي : إن شاء الله يا أمي.. و بالنسبة للكاذبين فهم مهما أوهمونا فإن الله يكشفهم في النهاية. ثم أكملت: لكن أنا أيضا عندي لك وصية. قالت: ماهي؟. أجبتها: أن لا تحزني أبدا مادمت تؤمنين بالله و لا تؤذين أحدا و أن تنتظري رؤية حكمة الله في كل شيء.

 

و إن مت قبلك إدع لي بالمغفرة... وكما قال النبي عن مربيته بركة "بركة هي أمي بعد أمي"، ادفنوني في المغرب فهو أمي بعدك يا أمي."

 

مقالات الكاتب