مجرد جواب

نحن المهاجرون و المغتربون حظنا الأوفر من الحديث سواء في بلد الإقامة أو الوطن يتخلله دائما عبارة "هو مجرد سؤال". 


 و أبرزها عندي هما : هل تستطيعين الاستقرار الدائم في المغرب؟ و لماذا تحجبتِ، و أنت في بلد عصري؟، و هل فكرت في خلعه منذ أن إلتزمت به؟!


 لتحملني هذه الأسئلة دائمًا إلى سبر أغوار نفسي، و أتذكر تلك اللحظات التي لا أعرف فيها من أنا. خاصة أنني أعيش في بلد بقدر ما أتماهى معه في كل قوانينه ودستوره وسلوكياته العامة، بقدر ما أنا دائمة البحث عن هويتي الحقيقية، التي لا أجدها إلا في قلبي و عبر عشقي و حبي لديني و لغتي و وطني الأصلي.


 و على قدر عشقي للتميز في الشكل و الحضور وللابتعاد عن أي تصنيف جغرافي، فإنني أكون في غاية السعادة حين أجد عين اللص التي عرفت جذوري مما يسمى بالعين المغربية. فمن المعلوم أن هناك خصوصية للعين المغربية. و قد ورد ذكرها في بعض القصائد العربية أيضا. البؤبؤ الشديد اللمعان أيا كان لونه أو حجمه، و الذي يعكس لك نظرة غجرية، فيها مزيج من الدفء و الحدة، سِمَته الكبرياء. في وصف آخر، نظرة المحارب الأصيل.لأضيف إلى البحث بحثا آخر، أو إشكالا آخر ينضاف لإشكال الهوية، ألا و هي أزمة الانتماء. فلا أنا لهنا و لا أنا لهناك و لا أنا لأي مكان. مع شكري الأزلي لهذه الاشكالات التي جعلت مني، ما كنت لأكونه يوما، لو كنت في أحضان وطني، خاصة و أنا "الأنثى" و هذه أزمة مضافة وحديث آخر.


 كان يجب أن أتغير، و أن أبحث عني بشكل مختلف، لكن دون أن يفرض عليّ أحد نوعية و كيفية هذا التغيير و مسالك البحث. كان يجب أن أغار على نفسي، و الغيرة في عرفي تكمن في أن أطلق لروحي العنان. كنت مألوفة عند الكثيرين، لكن في الواقع كنت معروفة من قبل أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.


 ولأني مثل أبي صاحبة مبدأ "العقلية الهيبية"، و هي بأن يعيش المرء حرًّا يفكّر و يجرّب ثم يختار الذي يناسبه، طالما ذلك لا يتناقض مع المبادئ الإسلامية و لا يؤذي الآخر، و هو الذي يقول دائما "إن لم يكن الشيء نابعًا من الداخل، فلا قيمة له أبدًا"...قررت أن أخوض التجربة.


كنت أتوق إليه بشدة، لكن أيضا لم أكن أرى أنه سيضيف أو يغيّر فيَّ شيء، و هي أصعب الموازنات. 


 الفكرة بدأت قبل عام من الحجاب. ليس الحجاب في حد ذاته، لكن الإحساس بكياني كمغربية مسلمة شكلا و مضمونا. لا أعلم كيف أصف ذلك الشعور بالضبط، سوى أني كنت سعيدة جدا، عندما كنت أذهب بالجلباب المغربي و الحجاب لأول مرة في حياتي في الشارع بغية الصلاة في المسجد في ليالي رمضان.


جاءت بعد ذلك رحلة لأداء العمرة أواخر 20133. هناك زاد شعوري بالدفء تجاه هذا الزي، رغم أني كنت لا أفكر أبدًا و مطلقًا في إرتدائه. لكني شعرت أني بدأت أتذبذب، بين شعوري بالراحة، والرغبة في أن لا أقيد نفسي بزي معين، خاصة و أننا في الأساس من أسرة محافظة. لم أرتدِ أبدًا ملابس البحر المكشوفة أو فستانا أو قميصا بحمالات أو ما شابه، و في الأساس لا أستطيع ذلك أبدًا. على الدوام كانت نفسي تنفر من العري، و حتى في أوساط النساء. لذلك فكرة الحجاب من أجل الالتزام بالحشمة لم تكن أبدا مغرية بالنسبة لي. وكما قال لي أحدهم بعد ارتدائي الحجاب: كنت دائما محجبة يا عزيزتي.


 في نهاية هذه الرحلة ناقشني ذهني في أمرين، الأول أنه لو كان النبي حيًّا بيننا و خرج ليرى من هم من أمته، فهل سيعرفني و أنا عصرية، فكما يقال المرء على دين محبوبه، والثاني أني مادمت قد استطعت أن أرتدي الحجاب لأول مرة و بشكل متواصل و لمدة أسبوعين دون أن أشعر بأنه غريب عني، إذن فما المانع من مداومة ارتدائه، مع وضع شرط أساسي لهذه التجربة، أني في اللحظة التي أشعر فيها بأنه يعيقني نفسيًّا أو اجتماعيا، سوف أتركه. مع اعتراف منّي بشرعيته و قدسيته، لكن أيضا لا أنسى أن للنفس قدرات و لروح العصر متطلبات.


 ما زلت أتذكر ثلاثة حوارات كانت هي الاولى والأخيرة لي في هذا الموضوع، عندما ظهرت لأول مرة به في حياتي اليومية هنا في ألمانيا.
 الأول عندما سألتني جارة لي صباحًا في موقف الحافلات، إن كنت سأواظب على ارتدائه، فقلت لها إنني سأحاول. وحتى لو كنت مرتاحة فيه و قلبي متمسكا به إلى الآن، فلن أكون ممن يرتدينه في الشارع و ينزعنه في العمل إن تطلب الأمر ذلك، فلست من أصحاب أنصاف الحلول. الحوار الثاني كان مع أستاذ السياسة و الإقتصاد، الذي قال لي بعدما رآني به أيضًا لأول مرة : الآن لا مجال للتراجع، و إلا سوف تطالك لعنات إلهكم. نظرت إليه وقلت: لماذا ذلك؟! ، أنا حرة في أن أجرّب و أن أختار ما يناسبني. الإسلام دين الإنسان و الرحمة.


 الحوار الثالث هو عندما سألني صديق ألماني هل يعني هذا أني أصبحت الآن مؤمنة؟، لأقول له أني كنت دائما مؤمنة. فسألني مجددا، فلماذا تحجبت و ما الفرق بين المسلمة المحجبة و غير المحجبة؟، لأجيبه: أنا تحجبت لأني أحببت أن أرتديه بعدما شعرت فيه بالراحة، و لا يوجد أي فرق بين المسلمة المحجبة و غير المحجبة، فالإيمان لا زي له، غير أن المحجبة يحسب لها ذلك التقرب بغية الحصول على المزيد من الأجر. لكن أنا عموما عندما تحجبت، لم أربطه لا بالجنة و لا بالنار، ولكن بالمحبة، و المحبة هي وحدها التي تمكنني من الإقبال على الجديد. إعتبرني أرتدي قبعة.

 

أنا شعرت أنه قد حان الوقت لمنح الذات فرصة جديدة للتعبيرعن نفسها بشكل مختلف يرضيها. إلى نقطة تحوّل، تساعدني على إعادة تأطير تجاربي السابقة، بين ما عشته في الغرب و الشرق و بين قلبي و وطني و هويتي. شعرت أنني أنا وحدي القادرة على أن تغيّر نفسها كما أرادت. بأن أمنح روحي السكينة و نفسي الرأفة، بأن أتوقف عن التفكير في حواجز الغرب و قيود الشرق، و في أبعاد فلسفة الإيمان، و في عدم تجاهل القدرات الحقيقية للإنسان. و كما يقول المثل الألماني "الذي وجد نفسه مرة واحدة، لا يوجد ما يخسره في دنياه بعد ذلك".


 هويتي وجدتها في تلك اللحظة التي قررت فيها أن أترك كل شيء خلفي و أن أرسل ذاتي للتجربة المفتوحة، التي قد تستمر و قد تنتهي.


 و لعل أشد ما يختصر كل ما ذكرته هو المثل المغربي الذي يقول "خرج نفسك من باب واسع". و معنى هذا المثل هي أنك عندما تقبل على أمر ما بوضوح و باجتهاد و في نفس الوقت بالرفق و اللين و التوازن و الهدوء. حينئذ الإنتقال من مكان إلى مكان، سيكون عبر باب واسع المدى، و رحم الله امرءا عرف قدر نفسه. يشبه في ذلك المثل الألماني الشهير "في الهدوء تكمن القوة".


 و أوسع ما قدمه الله للمؤمن هو كلمة ذكرت في سيد الإستغفار و التي تلخص كل شيء "و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت"، و الإستطاعة هنا مرهونة بالقدرة، غير أن القدرة متقلبة، أما المحاولة فهي ثابتة، و بالنسبة للنبي عليه الصلاة و السلام، فالنبي فوق الأبدان، لأنه يرى بنور الله، و نور الله هي روحه التي أودعها فينا.

 

نعم، الحنين لا يفارقني أبدًا إلى بلدي، و قلبي لا يهدأ إلاّ برؤية المغرب وأهله والأنعم التي حباه الله إياها وسماع صوت أذان مساجده ولعب الأطفال في أزقّته، لكن من تعوّد مثلي على الأجنحة والتحليق في ملك الله صارت له ربوع الله كلها أوطان. فحيث ما وجدت كرامة الإنسان و احترام العلم وحرية الفكر وجد الله، وحيث وجد الله نحبّ أن نكون و هو أعظم إنتماء. و قد أكرمني الله بأن أحياني في بلد أكون فيه كما أريد و لو اختلفوا معي فيه. أن أفكر و أسافر و أناقش و أدلل أحيانا و أن أعامل بإحترام في أي وقت و أي مكان، و أنا الأنثى.
رزقكم الله أجنحة الروح و جعل رؤوسكم عالية و عيونكم مغربية.
كان هذا مجرد جواب

مقالات الكاتب