ما بين ملكين

قالت الأولى أنها سوف ترتدي قفطانها، و الثانية التكشيظة، و الأخرى فستانها الجديد إلا أنها تحتاج لأن تستأذن من أختها في أن تعيرها حذاءها و حقيبتها، فهما مناسبين.

 

ثم إلتفتن إلي "وأنت يا مريم، ماذا سترتدين؟"

 

انتظرت إلى أن أحضرت لهن الشاي و وضعته على الطاولة، ثم قلت بتذمر : لا أدري.. شيء ما مما عندي.

 

ثم أكملت : "في الواقع لا يهم. لا أعرف أن أفكر في الزينة واللباس، والطريق والأرصفة كلها مكسورة و محفرة. ولا أستطيع الاستمتاع بالعطر والمكياج و القمامة في زوايا الأحياء متناثرة. الصورة فيها خلل ما".

 

ردت أكبرهن : كم أنت متكبرة و متعجرفة.. فقط لأنك في ألمانيا... (اهبطي شوية) فمن تواضع لله رفعه.

 

نظرت اليها وعلامات الاستفهام تعلو وجهي:" لم أفهم !؟ عن أي تكبر تتحدثين. هل من الطبيعي أن تكون البلاد خربة...!؟".

وضع أبي كوب الشاي من يده وقال موجها الكلام إلي: لا ترهقي نفسك بالشرح...لن يفهمك أحد.. و في الأساس هن لا يعرفن عما تتحدثين. أنت هنا لست سوى مجنونة.. رجائي في الله سبحانه و في عطف ولده نوحنا، و إلا فنحن إلا أسفل السافلين.

 

كان هذا حوارا عابرا وقت العصر في الدار الكبيرة بمدينة تطوان. و قد دار بيني وبين بعض بنات العائلة بعد مرور خمس سنوات من تولي الملك محمد السادس للعرش.

 

تشتهر تطوان بأنها من أنظف مدن المملكة وذلك حتى في أسوأ أيامها في ظل تهميش الملك الراحل الحسن الثاني لها، سواء على مستوى الفرد أو المدينة. تربيت على حقيقة مفروغ منها، وهي أن تطوان وكل مدن الشمال أبدا لن تكون شيئا مهما في لائحة المملكة، عقابا على فكرة الإنقلاب. و لشدة هذا الغضب، اشتهر ولي العهد محمد سادس بأنه يأتي خفية إلى تطوان و نواحيها، لكي يتفادى الصدام مع والده بهذا الخصوص.

 

كانت فترة غريبة. كيف لا و أنا أسمع عن قصة سيدة من محيطنا التي فقدت كلا ولديها بسبب هذا التمييز. فالأول كان نصيبه الموت غرقا، بعدما يئس من أن ينال فرصة في المملكة بسبب ازدياده في الشمال. و الثاني، العاشق للتعلم و الدراسة لحد الجنون، انتحر شنقا بعد القهر و الرفض الذي تعرض له، لأن كل ذنبه أنه من الشمال.

 

و لأن أبي كان من أبرز المستثمرين في فترة أواخر الثمانيات في تطوان، الأمر الذي جعله على علاقة مع بعض الجنرالات و رجال الأعمال و رجال المخزن وقتها. كان الحديث السياسي لا ينقطع عن أذني." قال الملك، و أمر الملك. سي فلان سمع من الوزارة كذا و سي فلان من المخزن كذا".

 

كانت صور الملك الحسن في كل الزوايا الرئيسية من المشروع، بل و حتى في البيت. كانت لنا علاقة غريبة مع الحسن الثاني رحمه الله. علاقة من الصعب تفسيرها إلا بعلاقة الأب القاسي الذي مهما فعل بك فإنك تحبه، أو لا تكرهه. كيف لا و هو من قال إن التربية والتأديب من علامات المحبة، و الذي قال "عندنا في المغرب الولد يقبل يد أبيه و الصغير يحترم الكبير"، و الذي كان يدعوا النخبة و صفوة المجتمعات و يفرق بين مجلس النساء والرجال بستار، لأنها من عادات المغاربة الأحرار. و الذي كان رغم ثرائه و لقبه بملك القصور، يحب أن يتناول وجبته و هو مفترش الأرض. كان باختصار ضمير المغاربة التربوي، و كما قال هو عن نفسه "أنا ملك بروح فلاح".

 

بالنسبة لي تعبير "مغرب الحسن الثاني"، هو تعبير إيجابي و ليس العكس، فالمغرب شعب روحه روح فلاح، يشبه في ذلك الشعب الألماني الذي لا يزال إلى الآن شعبا فلاحا، و الملك ما كان إلا مغربيا له منصب ملك. كان يغار على البلاد و على هويته و على كينونة المملكة المغربية و المواطن المغربي غيرة صادقة لا يستطيع أحد إنكارها و لو إختلفنا معه، و أصدق ما قاله في هذا، هو ما ذكره في كتابه "ذاكرة ملك" حين قال : إذا كان المقصود بالحداثة القضاء على مفهوم الأسرة، وعلى روح الواجب إزاء الأسرة، والسماح بالمعاشرة الحرة بين الرجل والمرأة، والإباحية في طريقة اللباس مما يخدش مشاعر الناس، إذا كان هذا هو المقصود بالحداثة، فإني أفضل أن يعتبر المغرب بلداً يعيش في القرون الوسطى، على ألا يكون حديثا".

 

من يدرس التاريخ يعرف جيدا أن ما مر به المغرب قبل فترة الحسن الثاني، و الحالة التعليمية و الفكرية التي وصل إليها الشعب بعد الإستعمار المتعدد الهويات، و بعد الإنقلابات التي شهدتها الحكومات في دول المشرق، كان لا بد من قبضة حديدية وقتها تدير هذه الشطحات. فمن رحمة الله بالمغرب وقتها صرامة الملك الحسن. العبقرية الحسنية المحفوفة بالبركة العلوية.

 

"يقولون كان الملك متجبرا حين أجبر الشعب على التبرع لبناء مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء. و أنا أقول الملك كان رحيما أكثر مما يظنون معهم. لقد أكرم شعبه بأن جعله يساهم في بناء مسجد من أعظم مساجد المعمورة. فمعظم الأثرياء و أصحاب المناصب الرفيعة ينفقون أموالهم على الخمور و النساء، فأي مكرمة لحقت بهم حين أمروا بدفع بعضها في بناء مسجد يشهد له التاريخ. و أما المؤمنون فهم أشد من يفرح لوجود حجر له في بيت من بيوت الله، و أما الفقراء سوف يعوضهم الله بعشرة أضعافها فهو وعد الله، و إنتهت الحسبة"، تقول أمي.

 

كنت أتساءل دائما بعد العودة من ألمانيا، لماذا شوارعنا ليست جميلة و نظيفة مثل شوارع ألمانيا؟ ، ليأتيني الرد "لأن الملك غاضب علينا و لا يحبنا، و لأن الشعب متخلف".

كنت مجتهدة جدا في الإبتدائية في المغرب و كنت الأولى دائما، مما جعل عندي الأمل في تحقيق حلم كان يراودني دائما. حلم بدأ من هذا التهميش، و من خلال عشقي للغة العربية وحبي لروايات و القصص و إنبهاري بعالم للسينما.

 

حلمت أن أتخصص في الأدب العربي وأن أكتب روايات باللغة التي أحب. تحكي عن الشرق والغرب والأديان و أن أبرز فيها عادات و تقاليد المغرب الفريدة من نوعها، مما يتيح لها الفرصة في أن تصبح فيما بعد أفلاما عالمية. تنجح أفلامي و تتوسع علاقاتي. لأبدأ في إقامة تجمعات لمشاهير العالم في تطوان و أن أقترح على الأغنياء المساهمة في تطوير و تنمية هذه المدينة لتصبح فيما بعد نموذجا تقتدي به البلاد، و بالتالي يحبنا الملك .

 

كنت أقول و أنا في الحادية عشرة من عمري للشوارع الكبرى، و لوسط المدينة و لبوابة مدرستي المكسورة، أعدك أنني سوف أقوم بإصلاحك حالما أكبر و أصبح مشهورة. كنت أحلم بأشكال الزهور التي سوف أزرعها في الشوارع الرئيسية و عدد شاحنات النفايات التي سوف أشتريها. كنت أفكر في بناء مأوى لأطفال الشوارع و للمرضى النفسيين الذين أراهم بين الدروب، و بأن أمنع الأطفال من بيع الأكياس في السوق، و بأن أنشأ مدارس ليس تعليم بل تثقيف البنات، فكما تعلمون هناك فرق.

 

ببساطة الأطفال كنت أحلم بأن أرى المغرب جميلا مثل ألمانيا لا أكثر و لا أقل، أحلام بريئة لطفلة لا تفهم شيئا على كل حال. لكني علمت فيما بعد أن أحلامي هذه تسمى بأحلام "النهضة".

 

إلى أن جاء الوقت الذي اقتلعت فيه من أحلامي "سوف تعودين إلى ألمانيا الآن. أنت الآن تقرأين و تكتبين جيدا، و تحفظين القرآن، و هذا كافٍ لترسيخ اللغة و المعتقد". هكذا قال لي والدي.

 

كانت صدمة بكل معنى الكلمة لي، توسلي و اعتراضي أيامها لم يجدِ نفعا، فجواب أبي و أمي حاضر : "المغرب لن يقدم لك شيئا يا ابنتي، هو وطننا و نحبه، لكن واقعه مرير. عندما تكبرين ستعلمين أن الحق فيه إما مهان أو بثمن . و أجمل ما فيه قد أخذتيه، العربية والعقيدة وهما أصل الإنسان".

 

نظرت إلى جبال تطوان و أحيائها و إلى كل ركن فيها و أنا أبكي لأني لن أستطيع أن أكون بجوارها و لن أتخصص في الأدب العربي و لن أكتب القصة و لن أَفِيَ بوعدي لها، بأن أجعلها جميلة كألمانيا. غادرت المغرب و أنا أقول: سامحني يا وطن.

ليتغير السؤال عندي و يصبح "إذا ذهبنا نحن، لمن نترك المغرب؟".

 

مرت الأيام و تولى الملك محمد السادس العرش، و جاء إلى الشمال و أعزه بقربه و أكرمه برعايته، و كان النصيب الأوفر لتطوان و نواحيها، ليتحقق لي كل ما حلمت به و أكثر، و بقي لي منه أجر النية الطيبة.

 

ومرحبا بنا في المغرب الجديد.. مغرب الحداثة و الديمقراطية.. مغرب ملكه أتي من أساطير ألف ليلة وليلة.

 

ملك يصافحنا و يمشي بيننا ويستمع إلينا ويعاقب الخائن، ويشمل عطفه وعنايته بكل مغربي رفع اسم بلده عاليا. وكما قال الحسن الثاني في أحد خطاباته عنه، حين سأله صحفي فرنسي عن أوجه التشابه السياسي بينه وبين ولي العهد، فكان رده "أنا أنا وهو هو ". أختصرها بمنظوري المتواضع، المغاربة انتقلوا من فترة الملك المربي إلى الملك الصديق.

 

أصبحت تطوان جنة في المغرب. لدرجة أنها فاقت في نظافتها بعض المدن الألمانية و جمالها ينافس العالم. أينعت شوارعها بالخضرة و الأزهار التي حلمت بها دوما، و أصبحت شوارعها سجادا صنع من إسمنت. وكما قالت لي سيدة من مكناس "عندما آتي إلى تطوان و نواحيها، أعتبر نفسي وصلت الى أوروبا أو سافرت إلى جزيرة متفردة".

 

أما المملكة ككل، فقد تزايدت فيها أعداد المدارس الخاصة و العامة و مراكز التسوق و المعاهد و النوادي، و أصبح المغرب مقصدا للعالم في ميادين عدة، الفنية منها و الدينية و الرياضية إلى آخر ذلك.

 

اندلعت الثورات وحل فصل الربيع بعدة دول عربية. تعرض المغرب إلى شظاياها و أثبت الملك محمد السادس كفاءته السياسية و حبه لشعبه، و أخذ البلاد إلى بر الأمان. و زاد المغرب تألقا و جمالا، مما جعله ضمن أكثر البلدان استقطابا للزوار.

 

ليتغير سؤالي مجددا و يصبح السؤال أقل ما أصفه به، هو سؤال غير واضح "أين المغرب الأن و إلى أين نحن ذاهبون و ماذا يريدون منا؟".

 

روحي ترى الأعداء يحاصرون البلاد من كل جانب. و خوفي على بلدي يزيد.

 

و قد قالها من قبل ملك لقب بأدهى ملوك العالم و بصاحب أخطر عقليات الفقه السياسي "أتمنى أن يكون الأمر صعبا على محمد السادس، و إلا فلن نحتاج إلى ملك".

 

من عرف الحسن، فهو يعرف أنه لا يتمنى، و إنما يعي ما يقول.

 

أصبحت أرى في المغرب من يختصر الدين في الذقن التكفيري، وتغطية الوجه بالسواد والبرقع الأفغاني، و آخر يظن التحضر في ترك الصلاة والصوم و نوافذ منع وصول صوت الأذان. أصبحت أرى التسلل الشيعي ، و جماهير الرايات السوداء، و الزحف الغربي نحو الطاقة، و بنات تركض وراء برامج الغناء و شباب "ماما عينوا". أرى الذكر النبوي و الأهازيج تستبدل بلعنات فارس كرم، و براءة وجوه تلميذات الإعدادي و ثانوي اختفت تحت مساحيق التجميل، وأصبحت أرى عادات غريبة تتداول في شتى المناسبات الإجتماعية. و بقيت وحدي أبحث عن روح الفلاح.

 

نعم، مغرب الحداثة و الديمقراطية كان حلمي دائما، لكني اليوم أصبحت أخاف على فقدان المغربي. فأكبر تحد للذات هو الإبداع دون الخروج عن المألوف. و كما قال الملك محمد السادس أمده الله بالصحة و العافية "إما أن يكون المواطن مغربيا أو غير مغربي".

أما بعد روح الفلاح، نأتي إلى كرامات خصها الله بأرض المغرب دون غيرها. و هنا أعتقد أني وجدت بعضا من الإجابة على سؤالي الأخير "إلى أين ذاهب المغرب و ماذا يريدون منه؟"

 

جواب يلخصه هذان المشهدان. الأول في جملة عابرة قالتها لي سيدة في مكة بصوت صاف و هادئ، بعدما رأت جلبابي المغربي: "المغرب بلاد الأشراف و الأولياء. صدقيني. في المغرب سر و كرمات لا يعلمها إلا الله و لا تراها إلا عين المؤمن. حفظه الله". أما والدتي فليست بحاجة إلى مقولتي هذه، فقد روت لي مره عن رؤيا رأتها، فقصتها علي كما يلي : رأيت رجلا يرتدي ثوبا أبيض ووجهه يشع بالنور يمشي فوق جبال المغرب . قال لي يا فلانة، النبي سار في المغرب و دعا له. و هو محفوظ بإذن الله.

لكن العناية الإلهية بالمغرب تعتبر نصف جواب على سؤالي، فما بال النصف الأخر.

 

غير أني ارتكزت عليه مع مرور الأيام. حين وجدت أبي يلوم أمي أحيانا، لإحسانها المفرط لمن يستحق و من لا يستحق، الأمر الذي قد يجعلها عرضة للانتهازيين في نظره. لأقول له دعها يا أبي.. فدوام إحسان أمي و أمثالها، و لبس المتسكع المنحرف صباح يوم العيد، جلبابه الأبيض و تقبيله ليد والديه على ما هو عليه من تفريط.. هي يد الله التي تمسك بالمغرب، و تبعده عن المتربصين به، و تجعله بلاد البركات. (*ملحوظة: الكرامات النابعة من الإيمان و الروحانية، و هي عكس الخرافة التي ترتكز على موروثات و رواسب الأساطير).

 

خلاصة القول، قالها الملك الحسن سابقا لأحد أولائك العابثين، و أقولها أنا بنت المغرب الآن وأبدا لكل من أراد أو فكر بالتلاعب بالمغرب " هادي راها بلاد الخيالة والرجالة، بالله العلي العظيم وما تبعد من التراث ديالي حتى نحط عليك دعوتي".

من شروط وجود الدولة وجود الصرامة و الهيبة. و هذا هو عمق الدروس الحسنية.

 

"المغرب القوي الحبيب إلى الله، أكثر من المغرب الضعيف. هو الذي ستصنعونه بأيديكم حضرات السادة. ستصنعونه لأن القوانين تنقسم إلى قسمين. منها ما يعطي أكله في الحين، و منها ما يؤتي أكله على عشرات السنين". (الحسن الثاني رحمه الله)

إلى روحك أيها الملك الأب

 

مواطنة من ثمار دروسك الحسنية

مقالات الكاتب