ربطة العنق

أجمل نظرة يمكن لعينيك أن تراها من الشخص الذي هو واقف أمامك، هي نظرته و هو يتحدث عن من يحب. فمهما كان منصب المتحدث أو مستواه الإجتماعي و الثقافي أو سنه، يظل الحديث الوحيد الذي يتغير فيه لونه وتتغير معه تقاسيم وجهه وردود فعله هو حديثه عمن يحب أو أن يسأله أحدهم عنه. فهي أصدق ما في جعبة علاقاته، كيف لا و هي الممزوجة بأعمق المشاعر التي قد توصلك إلى أن تبيع عمرك لأجلها على حد قول أحد الشعراء.


من أسعد لحظات حياتي أن أرى تلك النظرة، خاصة إن كانت من رجل يتحدث عن زوجته أو محبوبته بود كبير. لأني أشعر لحظتها بقيمة الإنسان تتجلى أمامي، وأيضا بقيمة المرأة الحقيقية و الفعلية في حياة الرجل ألا و هي "مصدر الطاقة و الإلهام السكينة".


قبل بضعة أسابيع في إحدى سفرياتي الثقافية هنا في ألمانيا بالقطار، كان علي أن أنتقل في إحدى المحطات إلى قطار آخر لأكمل الرحلة إلى وجهتي المقصودة. و لضيق مدة التغيير ما بين القطارين كان علي أن أركض بسرعة، لكن حقيبة سفر صغيرة لم تسهل علي الجري.


أثناء الشطر الأول من الرحلة حدثني شاب عن خشيته من أن يسبب له بطء حركة القطار الذي نحن فيه، ضياع فرصة اللحاق بالقطار التالي. وحين سألته عن وجهته، اتضح لي أنها وجهتي أنا أيضا. وعندما وصلنا عرض علي مساعدتي بحمل حقيبتي. ترددت في البداية، لكني وجدت أنه لا وقت لاستقلاليتي الآن لأن القطار سوف يقلع قريبا، شكرته و أنا أقول له: إذن تفضل احملها و اجعلنا نسرع، الأهم أن لا نتأخر.


أكملنا الرحلة معا ونحن نتغنى بجمال ألمانيا الذي يتجلى أمام أعيننا عبر النافذة. كان شابا من العراق. ملامحه فيها طيبة أهل بغداد و أهل العراق بعيدا عن كل ماهو قائم حاليا، كيف لا و هو إبن السنية من الظهر الشيعي، و لا أحد يتطاول على أحد، فكل صحابة رسول الله مباركون و كل نسائه أمهات المؤمنين و هذا هو عرفنا إلى يوم قريب.

 

حدثني عن رحلة هجرة أهله قبل عشرين عاما إلى ألمانيا، إلى أن انتقل الحديث إلى حكاية زواجه. فقال لي أنه تزوج بطريقة غريبة وسريعة. فقد سافر وبشكل عفوي و مفاجئ لمدة أسبوعين إلى العراق و هناك وبعد يومين، رأى أثناء أحد التجمعات العائلية فتاة فأعجب بها كثيرا وظل يفكر فيها طوال الوقت. ولم يكد يمضى أسبوع واحد حتى خطبها وعقد قرانه عليها. سألته هل وقع في نفسها ذات ما وقع في نفسك، فهذا مهم هنا، لأنه الفصل و الحكم في الموضوع. فأجاب نعم، كان شعورا متبادل و الحمد لله. فسألته مجددا ووجهي تعلوه الإبتسامة، لجمال تلقائيته في الحديث: كم مضى على زواجك؟ قال لي أربعة عشر عاما.

 

فسألته: وهل لازلت تشعر بما رأيته فيها أول مرة. فقال: أنا جد سعيد و مرتاح الحمد لله، و هو أجمل قرار اتخذته في حياتي على الإطلاق. فقلت له: هل يمكن ان تصف لي ما شعرت به وقتها؟ قال: لا أعرف، لكن هناك شيء برق في قلبي و لم ينطفئ، شعلة جعلتني متعلقا بها لا أعلمها و نحن إلى الآن على حالنا و لدينا ولدان والحمد لله. قلت له: أنت هو الإنسان الحقيقي، لأنك صدقت قلبك، و هذا ليس سهلا، لذلك قيل الحب للشجعان. و لو كان معظم الناس يصدقون ما يمليه عليهم قلبهم لما كانت حياتنا مليئة بالفوضى، و على جميع الأصعدة.


أكملت الرحلة مع رفيق رحلتي هذه التي دامت ثلاث ساعات تقريبا و نحن نتحدث أحاديث متنوعة و أنا أستمتع بأجمل نظرة.


تلك النظرة التي جعلت القصبجي يقبل أن يعيش في ظل أم كلثوم لكي لا يحرم قربها راضيا بأن يكون نصيبه منها، قيادة فرقتها، و التي جعلت عمر الشريف يغير معتقده لكي يستطيع الارتباط بفاتن حمامة، و هي كما كان يقول عنها دائما "المرأة الوحيدة التي أحببت في حياتي هي فاتن و عمري ما حبيت بعديها".

 

و التي جعلت محمود درويش يحب كل ما يخالفه، عندما أغرم ب "تمارا" الشهيرة في قصائده ب "ريتا". تلك الفتاة اليهودية الإسرائلية التي تعرف عليها عندما كانت ترقص خلال حفل للحزب الشيوعي الإسرائيلي، والذي كان درويش أحد أعضائه آنذاك، و التي جعلت معشوق النساء نزار قباني يعترف في إحدى قصائده أنه لم يعرف الحب إلا في الأربعين، رغم كل النساء اللائي مررن بحياته، بعدما عشق العراقية بلقيس التي اختصرت نساء الكون عنده، و التي حارب لأجلها رغم فارق السن بينهما و رغم رفض عائلتها له خوفا على ابنتهم من الديبلوماسي زير النساء. و التي جعلت أيضا ولي عهد النرويج الأمير هاكون مستعدا أن يتخلى عن عرشه عندما رفض الشعب فكرة زواجه بالفتاة التي أحب بسبب ماضيها غير المشرف، و التي جعلت الملك محمد السادس يوزع اهتمامه ما بين مشروع "مجموعة أونا الصناعية" و بين الحسناء الذكية ذات الخصل الحمراء البراقة. فهو كما قال ذات مرة و قبل زواجه في مقابلة، أحب النساء ذوات الشعر الأحمر.

 

و لا زلت أذكر أنها كانت صدمة عاطفية عند الكثيرات من السمراوات و صاحبات الشعر الأسود، اللواتي كن يأملن أن تحدث معجزة و يحبها احداهن ولي عهد المغرب. 
تلك النظرة التي جعلت صابر الرباعي يتوقف في المطار فجأة و يتوجه إلى مضيفة الطيران الحسناء، يطلب منها أن تأذن له في أن يلتقط معها صورة، لتصبح بعد ذلك هي حبيبته و زوجته، و كما جاء على لسانه، أنه و لأول مرة يشعر بالاستقرار التام في حياته المهنية و العاطفية، غير آبه بمن يقول عنه إنه يمر بمراهقة الأربعين.

 

و تلك النظرة أيضا التي جعلت الصحفي يسري فوده، و بعدما لقب و لفترة طويلة بالإعلامي العازب أن يقرر و يفاجئ متابعيه بزواجه من المذيعة السورية "ألما عنتابلي" أيضا غير مكترث بكثرة الحديث عن فارق السن بينهما مادام و كما قال المثل "أنا راضي و هو راضي مالك إنت و مالنا يا قاضي".


تلك النظرة التي ليس خوالجك فقط من قلبت و إنما معاييرك و موازينك كلها، لتتحقق بذلك مقولة الفيلسوف اليوناني هرقليس "الثابت الوحيد في الكون هو التغيير".


فلم تعد عند القصبجي لمصلحته أهمية، و لم يعد عمر الشريف مشيل شلهوب تابعا للمسيحية، و لم يعد مهما أن تمارا إسرائيلية، و لا وجود لأي إمرأة عند نزار قبل بلقيس في كل الدنيا، و لا لعرش النرويج قيمة أمام مشاعر الأمير الإستثنائية، و لا الأميرة لالة سلمى بناني مجرد مهندسة نظم المعلوماتية و بنت من بنات الرعية، و لا صابر الذي يعيش حالة وحدة مخفية متزوج و صاحب مسؤولية، و لا يسري فوده يكبر ألْما بعشرين سنة إلا "شوية".


مطلب النساء في العالم أن يأتي من يقبل جبينها قبل ثغرها، و مطلب رجال العالم أن يجد من تعرف متى تربط و متى تفسخ ربطة عنقه.


عندما يقبل الرجل جبين المرأة فهو يعلن بذلك التقدير لإنسانيها و ذاتها، و عندما يقبلها من ثغرها فهو يعترف لها بسيادة أنوثتها. و عندما تعرف المرأة متى تربط "ربطة العنق"، فهي تهبه لمجتمعه و عقله و فكره و طموحاته، متسلمة بذلك مهام السيدة الأولى، تلك التي ليس لها مثيل في العالم و التي يظل البحث عنها قائما دون أي نتيجة، و التي كانت تريده دائما و أبدا أن يكون ملكا متوجا في دنياه "السيدة الوالدة".

 

أما عندما تعرف متى تفسخها فهي تعلن له بذلك تمكنه من عقلها و وجدانها، واهبة إياه لحظات يعيشها بطفولته و نفسه و ذاته التي لا ترى إلا بين أربعة جدران، و في كلاا الحالتين، فهي تلك اللحظات التي يقف فيها مستسلما أمام من اختارتها نظرة عينه لتلك المهمة.

مقالات الكاتب