عروبة في بلاد الرايخ

السؤال الذي يطرح عليا دااااائماً أين تعلمت اللغة العربية، خاصة و أنت بنت ألمانيا؟! و كيف استطعتِ جمع معلوماتك الشتى في الميادين المختلفة.

الحقيقة، أنا لم أتعلم اللغة العربية بل هي التي تعلمتني.

لنعد إلى الوراء قليلا.

 

هاجر أبي إلى ألمانيا فور حصوله على شهادة الباكالوريا سنة 1967 كان متأثرا جدا بالحقبة الناصرية، خاصة و أن جمال عبد الناصر كان يركز على أن يرسل المدرسين إلى البلدان العربية تعزيزا منه لفكرة الوحدة، فكان من درس أبي التاريخ و الجغرافيا أستاذ مصري، قبل أن يقوم الملك الحسن بطرد جميع الكوادر المصرية بعد تطاول جمال عبد الناصر على الملكية في المغرب تشجيعا منه على الانقلاب.

 

عندما أتى أبي إلى المانيا كان ذلك في عام النكسة كان هو و من عاشوا تلك الفترة جد متأثرين بالأحداث و لكي يعرف آخر الأحداث كان يتعرف و يحدث أي عربي قادم من المشرق خاصة، و مهتم عامة (من مصر، سوريا، فلسطين و هكذا).

 

 كان يجمع منهم الأخبار و المعلومات بشغف و يتحدث عنها بشغف لا يقل عنه. ترأس السادات و دخلت مصر الحرب، كانت الحياة بالنسبة لهم بعد العمل، هي ماذا قال السادات و متى يلعب محمد علي كلاي.

 

كان العرب يأتون مثقلين بأحزانهم، ثقافتهم و أحلامهم في نيل مستقبل أفضل، و كان أبي المغناطيس لكل هذا. ليكون عنده و بين قوسين (مكتبة ثقافية فنية سياسية) كم هائل من الأفلام المصرية و السورية القديمة و الحديثة، دينية، الغرامية و السياسية، شرائط عديدة لديدات و الزنداني و أفلام العقاد، شرائط لأشهر مطربين المشرق و المغرب العربي، و شرائط لأشهر المشايخ في قراءة القرآن و الدعوة. كتب في السياسة و الدين و الاقتصاد، التاريخ و الفلسفة، الأدب و الفنون.

 

بالرغم من أنه لم يكن يطالع كل هذا، لكن حبه للنقاش جعل كل من عرفه يهديه شريطا أو كتابا أو صحيفة. لتصبح عنده في كومة الكتب هذه و المتناثرة في كل مكان، نسخة من الإنجيل و بروتوكولات بني صهيون، و فكر الإخوان.

 

هذا من جهة، من جهة ثانية كانت ألمانيا لا تزال منهكة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كانت تطلب العمالة باستفاضة، أتراك، إيطاليين، روس، عرب و من أي مكان، المهم نهضة البلاد. في الوقت ذاته كان هناك دائما من يردد أنه حالما يستتب الاستقرار الإقتصادي والعمراني في المنطقة، سوف يتم ترحيل كل هؤلاء القادمين بين عشية و ضحاها.

كان هذا الهاجس يؤرق والدي، لذلك كان مهما عنده أن يتعلم أولاده العربية، حرصا منه في حالة تم طردهم فجأة، فيكون على الاقل قد سلحهم بلغة وطنهم الأم، بالإضافة إلى أنه كان لا يتصور أن أبناءه لن يستطعوا قراءة القرآن و هو الذي كان مجتهدا فيه في صغره. فما كان منه إلا أنه و بعد مرور فترة الحضانة في ألمانيا أن ترك إخوتي الذكور صغارا، لنيل فترة الإبتدائية قبل أن يعودا مجددا إلى ألمانيا و كان ذلك في نهاية السبعينات.

 

جاءت فترة الثمانيات و هاجس الترحال لا يزال قائما، بالرغم من أني إلى يومنا هذا لا أعرف كيف صدقوا هذه المقولة بهذا العمق!، هو و كل من عايش تلك الحقبة. ليقرر أبي العودة من تلقاء ذاته إلى وطنه واستثمار مدخراته هناك.

 

الثمانينات و ما أدراك ما الثمانينات و بالذات في شمال المغرب، الذي تعرض للتهميش الحضاري و الإقتصادي بعد أن أقصاه الملك الحسن الثاني من إعتباره بعد ثورة الريف، كنوع من العقاب الشعبي إن صح التعبير.

 

 فكان ذلك سببا في تفشي الجهل و فرصة ذهبية للسيطرة المطلقة لتجار المخدرات و السلاح على المنظومة الإقتصادية. ليجد أبي أنه قد ارتكب جرما في حق نفسه بأن ترك ألمانيا و أتى إلى وطنه مستثمرا.

 

بعد أقل من خمس سنوات ترك البلاد و عاد إلى ألمانيا. في فترة التسعينيات بدأ يظهر جيل لا هوية له. فلا هو عربي و لا هو غربي و بالذات في دائرة البنات، التي أخدت طابعا غريبا عن مجتمعنا المغربي و بالذات في شمال المغرب و المعروف عنه أنه أكثر المناطق المغربية محافظة و لا أقول متدينة (تطوان، شفشاون، طنجة، العرائش، وجدة، الحسيمة، الناظور، بركان) كلها مناطق عرفت بالحياء، على الأقل في ذلك الوقت. فازداد قلق أبي، و كان هذا هو سبب تعلمي العربية، فبعد فترة الحضانة في المانيا بقيت في المغرب أنا و أختي الصغرى مع خالتي تحت رعاية والديَّ المالية لمدة أربع سنوات.

 

 لأعود إلى ألمانيا و أعيش في ريفه النقي. في هذه الفترة قرر أبي أن يعزلنا عن المجتمعات العربية المحيطة بنا لرداءة المستوى الفكري و أحيانا الأخلاقي، و تفشي اللا هوية. ولأن أغلب المغاربة في المدن المحيطة، هم من الناظور و أريافه. كان التواصل صعبا لإختلاف اللهجة من جهة و الطبائع من جهة أخرى، و لا ننسى الإكتفاء العائلي الذي يتمتع به أهل هذه المناطق، فهم كثر(*ملاحظة: أصول أبي من أمازيغ نواحي الناظور وبركان و من هناك ينحدر إسم عرجون و جذور أمي عربية موريسكية من نواحي تطوان، فأنا بنت المغرب بجميع أطيافه و لا أنحاز لطرف على حساب الأخر).

هنا في ألمانيا لا أقارب ولا معارف ولا أصدقاء، و بسبب ضغط الحياة العملية فلا أحد في البيت كذلك. كنوز السبعينات و الثمانينات و التسعينات التي وجدت في بيتنا هي عائلتي و المطالعة هي صديقتي، فعشقت المعرفة و أدمنت الفضول و حصلت ما تيسر لي من المعارف و العلوم، فقرأت كل الكتب و كل الأفكار و كل التوجهات و شاهدت كل الأفلام و كل المناظرات. قرأت الإنجيل و التلمود و تفسير القرآن، التاريخ الجغرافيا و الاقتصاد، الشعر الأدب و الفنون عامة. لأبحر كل يوم في عالم جهلي و إلى الآن أنا الجاهلة دائما و أبدا.

 

فكانت و لا زالت دعوتي الأولى و الأخيرة...و قل رب زيدني علما.

 

و العلم يبدأ بالفضول و العشق، و هو سر العارفين. أينشتاين عندما سأله أحدهم هل موهبتك العلمية هي وراثية؟ أجابه أنا لا مواهب لي، أنا فقط أعشق الفضول.

 

جوابي هو، إن سياسة و أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية، و حلم جمال عبد الناصر بالوحدة العربية، و الانتشار الهائل لمافيا المخدرات و السلاح في فترة الثمانينات هم من علموني اللغة العربية و خبايا بلدان العروبة و بعضا من تاريخ الأمم.

 

أتحدث الألمانية طيلة يومي، لكن إذا خطر لي أن أمسك القلم، فلا أجد سوى لغة القرآن.

 

فشكرا للحرب العالمية و لوهم العروبة ولمافيا الدولة.

زادكم الله علما و نورا و رزقكم حياة مليئة بالفضول. 

مقالات الكاتب