أزهار الإمبراطور

اقتربت ليلة عيد الميلاد المجيد، و بدأت الشوارع و المحلات و المحطات و التماثيل و الأبنية التاريخية هنا في ألمانيا تزدان و تتزين بالأنوار و مصابيح الشموع و بأشجار و أطواق الصنوبر الثمري و امتلأت مداخل و واجهات و رفوف المحلات بكل أنواع الحلويات التقليدية بهذا العيد و بأجود و أثمن أنواع الشكولاتة. تذكرت اليوم و أنا أمر على ممر مليء بعلب الشكولاتة المحشوة اللذيذة مثل غربي يقول "إن الحياة تشبه علبة الشكولاتة المحشوة، فلا أحد يعلم أي حشوة ستكون من نصيبه".

 

بعد الحرب العالمية الثانية كانت علاقات ألمانيا الخارجية والدبلوماسية مع بعض الدول تمر بحالة توتر شديد، و بالبعض الآخر كانت محدودة أو منعدمة في بعض الأحيان. في ذلك الوقت كان الذي يقود مبادرات تحسين صورة و علاقات البلاد الخارجية هو المستشار الألماني "هلموت شميدت"، وقد اكان من ضمن أولوياته علاقة بلاده باليابان.

 

فبدأ يحاول جاهدا إقناع السياسيين في ألمانيا و في اليابان بمحاولة مقابلة الإمبراطور الياباني "هيرو هيتو"، ليتمكن بعد عناء مع كلا الجهتين من نيل الموافقة. إثر ذلك قام رفقة زوجته "لوكي شميدت" بزيارة دبلوماسية تاريخية إلى طوكيو.

 

لكن قبل السفر حرص المستشار شميدت على أن يلقن زوجته لوكي البروتوكول الخاص بلقاء الإمبراطور و اللقاءات الدبلوماسية، و كيف يجب أن تتصرف ونوعية ومدى المداخلات التي يمكن أن تلقيها. وفي الطائرة و قبل الوصول كان حريصا بالتشديد عليها، بأن تحاول البقاء صامتة و أن لا تتحدث البتة قدر الإمكان، نظرا لشدة حساسية الموقف والزيارة.

 

بعد الاستقبال و بدء المحادثات كان المستشار الألماني يحاول جاهدا أن يكسب ود ولطف الإمبراطور والإمبراطورة عبر الحديث السياسي والإقتصادي والتاريخي بشكل هادئ و مسالم، لكن الإمبراطور ظل جامدا تجاهه و بالكاد أبدى اهتمامه لما يقول.

 

فجأة نظرة لوكي شميدت إلى إحدى زوايا القاعة و هي المعروف عنها غرامها بالأزهار و الحدائق و قالت: يا لجمال وروعة هذه الأزهار التي عندكم. يقول شميدت عن هذه الواقعة أنه شعر بتوتر و أن نبض قلبه قد علا و بدأ كل من في القاعة يكتم ضحكه و هو يراقب ردة فعل الإمبراطور. لكن الإمبراطور استقبل كلامها بهدوء و استمع إليها و قد شدت انتباهه لتسلسل حديثها، و شميدت بالكاد يصدق ما يرى ويسمع. ثم شرعت في الحديث عن الزهور وأنواعها و كيفية زراعتها وعن الطبيعة و أنواع التربة وعما قرأته في المجلات عن اليابان إلى آخر ما جادت به قريحتها يومها. فبدأ الإمبراطور ولأول مرة و منذ بداية اللقاء يتفاعل و يبتسم من الأعماق، و بدأ يتحدث عن النوعيات التي يمكن والتي لا يمكن زراعتها في بلده ويبادلها المعلومات البيئية. لتكون هذه هي بداية تفعيل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، و المستشار الذي كان ممانعا ومشددا لزوجته في أن لا تتحدث قال لاحقا: عفوية وتلقائية زوجتي هي التي أعادت الحياة للعلاقة الألمانية اليابانية.

 

تركت المستشار والإمبراطور خلفي وعدت إلى الرفوف الممتلئة الأمامي بكم هائل من الشكولاتة ذات العلب الرائعة والجميلة و قلت في خاطري معقبة على المثل : لا بأس أن تكون الحياة "علبة شكولاتة محشوة"، مادام الاختيار منحصر فيها.

 

لوكي شميت حتى وإن خالفت البروتوكول ما كانت لتخطئ، لأنها ببساطتها و عفويتها و جمالها الداخلي كانت "علبة شوكلاتة" و الشكولاتة كلها لذيذة.

 

حياتنا عفويتنا.

 

كل عام و حياتكم علبة شكولاتة وعيون ترى الأزهار في كل مكان.

مقالات الكاتب