أدب الفريمات.. بلسم الأوجاع

 
لا أدري منذ متى بدأت تستهويني العبارات التي اعتاد بعضهم كتابتها على الخلفيات الزجاجية (الفريمات) لسياراتهم وحافلاتهم، معبرين عن جوانب من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية الاستثنائية التي يمر الوطن.. لعل بداية اهتمامي بهذه الظاهرة يتزامن مع بدايات انتشارها التي لا أحسب أنها تتجاوز العقدين من الزمن، أو الثلاثة على الأكثر، أقول منذ انتشار الظاهرة، ولا أقصد جذورها التاريخية التي قد تعود إلى أبعد من ذلك، ثم إني أربطها بمدينة عدن التي سكنتها وسكنتني منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولا شأن لي بأي منطقة أخرى.. إنها عبارات بسيطة، ومنتقاة بعناية، تعكس جانباً من قدرة أبناء هذه المدينة المكلومة على التعالي على أوجاعهم اليومية بتحويلها -غالباً- إلى   طُرفة، أو سخرية لاذعة، وقد يلجأون إلى التصالح مع تلك الأوجاع بتدوينها على زجاج سياراتهم، لتبقى نصب أعينهم، مقنعين أنفسهم أنها غدت جزءاً من حياتهم اليومية، وينبغي التكيف معها قدر المستطاع.
لقد غدت قناعتي راسخة بأن هذه العبارات البسيطة ترتقي لتشكل أدباً له خصوصيته وخصائصه، يمكن تتبعها وجمعها ودراستها اجتماعيا ونفسياً وأسلوبياً... تحت مسمى (أدب الفريمات).. 
إنها المرة الأولى التي أكتب عن هذا الأدب الفريد، على الرغم من امتداد زمن اهتمامي به، وقناعتي بخصوصيته الدلالية.. فما الذي دفعني الآن إلى الكتابة عنه؟.. ما دفعني للكتابة هو إحدى تلك العبارات الفريمية..ففي أثناء عودتي من العمل ظهيرة هذا اليوم، حانت مني التفاتة من نافذة الحافلة التي كنت أستقلها، لتقع عيني على عبارة مدونة في الزجاج الخلفي لإحدى السيارات، تقول:  
*(ابتسم..*
*ربما تكون شهيد الانفجار القادم)*
عبارة بسيطة، كان ممكنا أن تترك في نفسي شعوراً لحظياً ثم أنساها، كغيرها من العبارات الأخرى التي تجبرني على الابتسام أو الحزن للحظات يسيرة ثم تمضي.. ولكنها لم تفعل.. أبتْ إلا أن تتوغل عميقاً في حنايا نفسي، وتتربع ساعات كثيرة في ذهني.. ولست أدري لماذا لم تكتف بمصافحة نفسي، ثم تمضي كغيرها من العبارات (الفريمية)؟!.. ما الذي احتوته هذه العبارة حتى استطاعت أن تبسط تأثيرها العميق في نفسي، وأن تلتصق في ذهني أكثر من أي عبارة مشابهة؟!.. 
ألأنها تقوم على (المفارقة) المؤلمة بجعل (الابتسام) قرباناً لـ(الانفجار) الوشيك؟.. 
أم لأن كاتبها تحاشى صيغة التنكير (انفحار قادم) واعتمد صيغة التعريف (الانفجار القادم) ثقةً منه بحدوث ذلك، بناءً على توالي الانفجارات التي غدت وجبةً يومية في هذه المدينة المستباحة..
أم أن الأمر يتعلق بكلمة (شهيد) بدلالتها الدينية المباشرة، وبدلالتها الضمنية على الحرب والإرهاب.. 
أم لأنها تجسد صورة مؤلمة لمحاولة تثليم حد الفاجعة بالسخرية منها والتهوين من شأنها.. 
أم أن مرتكز تأثير تلك العبارة يكمن في كونها تربط بين الانفجار ومدينة عدن؟!.  عدن التي غدت منذ سنوات تنام -إن تركوها تنام أصلاً- على دوي الانفجارات وتصحو عليها.. 
أم أن الأمر يكمن في تلك الأسباب -أو أكثرها- مجتمعةً؟!
مهما يكن من أمر، فإن هذه العبارة، بكل ما اشتملت عليه من بساطة التركيب، وعمق الدلالة، والقدرة على التأثير، تؤكد أن (أدب الفريمات) جدير بالدرس النقدي، ليس بوصفه بلسما للأوجاع في هذه الأوضاع الاستثنائية فحسب، بل لكونه مؤشراً على التكوين الاجتماعي والنفسي والثقافي لأي مجتمع في كل زمان ومكان!